الثلاثاء 01 ديسمبر 2015

يتحدث عدد كبير من الباحثين الاستراتيجيين عن الجغرافيا السياسية المعقدة لهذا القرن، ولكن معظمهم يجهلون جانباً قلّ من يدركه، مع أنه من الجوانب المهمة كثيراً في قوة الدولة؛ ألا وهو الثقافة الوطنية. ويأتي الأمن الفعال في عصرنا المعولم من مصادر عديدة، غير أن ثمة نقطة قوة كبرى لدى دولة الإمارات العربية المتحدة تتمثل في ثقافتها الوطنية الفريدة. ومن بواعث السعادة في هذا الشهر الذي تحل فيه ذكرى وطنية عزيزة على القلوب، أن تحتل الأنشطة الثقافية مكاناً جديراً وبارزاً في دولة الإمارات.
 
 
تعد الثقافة الوطنية بمثابة نظام حياة، ولا سيما التقاليد والمعتقدات، لجماعة مخصوصة من الناس في زمن مخصوص. وتنحدر أصول مصطلح الثقافة في اللغة الإنجليزية المعاصرة من الخطيب الروماني، سيسيرو، الذي كتب عن تثقيف النفس وتعهدها؛ إذ تعني الثقافة “المكان المثقف أو الذي يتم تعهده بالحراثة”، وبالتالي فإن الثقافة الحقة تحتاج إلى عناية ورعاية. قال الفيلسوف الألماني يوهان هردر إن الأشخاص الذين يمتلكون ثقافة مشتركة يتميزون بهوية جماعية وإحساس بالمصير المشترك. وقد بنت دولة الإمارات العربية المتحدة وتعهدت هوية وطنية فريدة، وهذا عنصر من عناصر الثقافة يضفي القوة على ما تفعله وتعنيه الأمة.
 
 
تتجلى الثقافة بطرق عديدة. فقد أعاد يوم علم الإمارات إلى الذاكرة جهود مؤسسي الدولة من خلال رمزنا الوطني. قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رعاه الله: “ علمنا هو رمز عزة هذا الشعب وسر قوته ومصدر فخره واحترامه، فلنحافظ عليه مرفوعاً عالياً خفاقا ملهماً في كل مكان وزمان.” ووصف العلم بأنه “يمثل شعار طموحاتنا وعنوان تضحياتنا وراية عزنا وفخرنا، لنا في دولة الإمارات علم يمثل اتحاد إرادتنا وعزيمتنا واتحاد قدراتنا ووحدة بيتنا ووحدة رؤيتنا ومستقبلنا”. كما أن احتفالات هذا العام تكرم أفراد القوات المسلحة الذين ضحوا بأرواحهم من أجل وطنهم. إن اللون الأحمر في علم الإمارات يرمز لتضحيات شهداء الوطن، وهذا يقوي إرادتنا الوطنية، بينما يرمز اللون الأخضر إلى النمو والازدهار، أما الأبيض فيمثل المساهمات الإنسانية للدولة ودعمها للسلام، ويعكس اللون الأسود القوة ورفض الظلم والتطرف. وإلى جانب العلم، يعتبر النشيد الوطني حاملاً آخر للثقافة الوطنية وموحداً للأمة. فقد دعانا الشيخ محمد إلى الحرص على الالتزام الدائم بالقيم التي نحتفل بها في النشيد الوطني.
 
 
ثمة عنصران فقط في الثقافة الوطنية. وضع جيرت هوفستيد نظرية لفهم العلاقة بين الثقافة وقيم الشعب باستخدام تحليل العوامل. فهو يعرف المجتمعات الفردانية والمجتمعات الجماعية، ويتم التمييز بينهما بما إذا كان أفراد الشعب يعرفون أنفسهم بعبارة “أنا” أو “نحن”. فأفراد المجتمعات الفردانية يعتنون بأنفسهم وبأسرهم فحسب، بينما تعيش المجتمعات الجماعية من خلال جماعات ولاء وانتماء. ومن الواضح أن دولة الإمارات العربية المتحدة هي مجتمع جماعي يتميز فيه الالتزام الطويل الأمد نحو الجماعة بالقوة، وتسهم هذه العادات الثقافية القوية في ترسيخ أواصر الوطن وتماسكه أيضاً. فدولة الإمارات هي بلد يؤكد فيه شعبه على الكيان الفعال في مجتمعه، حيث يعكس التسلسل الهرمي في المؤسسات الأعراف المقبولة، فالمركزية ناجحة، والقادة يولون قيمة للمشورة المنتظمة، كما أن هذه الممارسات تسهم في تعزيز الوحدة وبناء الروح الوطنية.
 
 
تعتبر القوة النفسية الوطنية مفهوماُ مترابطاً؛ فهي تقوم على الإيمان بأنه كلما كان ازداد الانسجام بين آراء الحكومة وآراء الشعب في أي دولة من الدول، كلما كانت الدولة أقوى، مما يرسخ العلاقة المهمة في ثلاثية كلاوزويتز بين الحكومة والشعب. وفي هذا الشهر، شهر الفخر والعزة الوطنية، توضح التجارب الأخيرة لدولة الإمارات في اليمن بجلاء اهتمام قادة الأمة وتفانيهم، وإيمان المواطنين القوي بالجهد المبذول هناك، مما يبرهن على القوة النفسية الحقيقية في دولة الإمارات.  
 
 
إن احتفالات اليوم الوطني والعلم والنشيد الوطني جميعاً، مقرونة بالاعتزاز الكبير بمنجزات الوطن واستذكار بطولات الإماراتيين في اليمن، ستسهم في تعزيز قلوب الأجيال وترسيخ النفوذ الوطني في المستقبل. ولا ريب في أن التحديات ستستمر في امتحان قوة الإمارات، غير أن هذه العناصر الثقافية البسيطة، ولكنها قوية، ستسهم باستمرار في بناء مزيد من الوحدة والروح الوطنية، والقوة النفسية داخل الدولة. إن تقدير الذكريات، ووحدة اللغة والعقيدة، والعيش بثقة في بيئة قانونية وسياسية ملائمة، متمثلاً ذلك في ثقافة إمارية قوية، تشيع الطمأنينة في قلب الأمة النابض، وتنشر الازدهار والرخاء في ربوع الإمارات برغم التحديات.