الأحد 05 يناير 2020

لم يحدث من قبل أن اعتمدت الدول في المقام الأول على استخدام قوتها الاقتصادية بديلاً عن القوة العسكرية لتحقيق أهدافها الاستراتيجية في السياسة الخارجية. ومن واشنطن إلى بكين، وصولا إلى أبو ظبي، لا تزال قوة السلاح وتضحيات الرجال والنساء في القوات المسلحة هي الركيزة الأساسية في بنيان الأمن الوطني. وبحسب البيانات الصادرة عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، ظهر انخفاضاً منتظماً في الإنفاق العسكري العالمي ، حيث كان أدنى بقليل من 1500 مليار دولار أمريكي في نهاية ثمانينيات القرن العشرين، وانخفض إلى نحو 1000 مليار دولار في عام 1996، ثم عاود الارتفاع بعد عام 1998، ثم مر بفترة استقرار منذ عام 2010، وفي عام 2017 بلغ الإنفاق العسكري العالمي نحو 1739 مليار دولار أمريكي.

إن هذا الاتجاه التصاعدي في الإنفاق العسكري يرتبط بصعود الاقتصاد العالمي، والذي بحسب التوقعات سيتضاعف حجمه بحلول عام 2050، وهو ما يتجاوز كثيراً النمو السكاني العالمي، ويرجع ذلك إلى الاعتماد على الحلول الاقتصادية المبتكرة. وفي الوقت الحالي تحول مركز ثقل الاقتصاد العالمي من الغرب إلى الشرق، حيث تشير التوقعات إلى أن حجم اقتصاد دول قارة آسيا سيكون أكبر من إجمالي حجم بقية اقتصادات العالم في عام 2020. و بحلول عام 2050، ثمة تحول في ميزان القوة الاقتصادية العالمية لصالح اقتصادات الأسواق الناشئة في سبع دول وهي (البرازيل، الصين، الهند، إندونيسيا، المكسيك، روسيا، تركيا).

لقد أصبحت ثروة أي دولة الآن أكثر أهمية من القوة العسكرية، وأصبحت اقتصادات العالم أكثر ترابطاً وتشابكاً. وفي ظل هذه الحقيقة، ظهرت مجموعة جديدة من الأطراف الفاعلة، مدعومة بفوائض ضخمة في حساباتها الجارية وتراكم احتياطيات هائلة من النقد الأجنبي. ولقد أعطت هذه الإمكانات المالية الضخمة لهذه الدول القدرة على حماية اقتصادها ومصالحها الوطنية والحد من تعرضها لتقلبات الأسواق الرأسمالية الدولية، فضلاً عن صياغة أساليب جديدة في إدارة الشؤون الاقتصادية لأغراض الأمن التي تخدم السياسة الخارجية. ومن بين الدول التي تستخدم هذه الأساليب الجديدة بمهارة، على سبيل المثال لا الحصر، الصين والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. 

 وقد أدى تنامي الثروات والترابط الاقتصادي بين الدول إلى ازدياد المؤثرات الخارجية على الأمن وتفضيل الاستخدام الممنهج للوسائل الاقتصادية كأداة للسياسة الخارجية. وتشير عبارة "المؤثرات الخارجية على الأمن" إلى العواقب الأمنية المرتبطة بالمعاملات الاقتصادية المتبادلة بين الدول. كما يُعرف مصطلح الجيواقتصادية بأنه "استخدام الأدوات الاقتصادية من أجل تعزيز المصالح الوطنية والدفاع عنها، وتحقيق نتائج جيوسياسية مفيدة؛ فضلا عن التأثيرات التي تخلفها الإجراءات الاقتصادية لدول أخرى على الأهداف الجيوسياسية لدولة بعينها". والواقع أن الجيواقتصادية الحديثة تهتم بتعزيز هذه العواقب الأمنية أو تقليلها أو الاستفادة منها. 

والواقع أن المخاوف بشأن المؤثرات الأمنية الخارجية المترتبة على الإجراءات الاقتصادية التي تمارسها دول بعينها تحولت إلى مخاوف أمنية وطنية كبرى، إذ أن الزعماء السياسيون للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على وجه الخصوص يساورهم القلق إزاء الصعود الاقتصادي المتنامي للصين، وهذا هو السبب الرئيسي للسياسات التجارية المناهضة للصين التي ينتهجها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، كما يدرك الاتحاد الأوروبي أن الصين "منافس اقتصادي دائم". ويمكن طرح مثال على ذلك، ففي 24 فبراير 2018، أدهش ملياردير صيني الألمان وأصبح أكبر مساهم في  مجموعة دايملر الألمانية (التي تضم شركات مرسيدس بنز وسمارت). وأعربت بريجيت زيبريز، وزيرة الاقتصاد الألمانية، عن قلقها قائلة أن عملية الشراء هذه لا ينبغي أن تكون "منفذاً لخدمة السياسة الصناعية لدول بعينها". ولاقت هذه القضية صدى واسعًا بعد تعليق المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي حاولت التأكيد على عدم وجود "انتهاك" في هذه العملية وأن بلدها منفتحة أمام الشركاء التجاريين. ولعل تصريحات المستشارة الألمانية تعطي إشارة إلى أن الاقتصاد في بعض الأحيان يكون له الغلبة على المخاوف الأمنية، على الأقل عندما لا يُنظَر إلى التهديد الأمني أو التحدي الأمني باعتباره أمراً بالغ الأهمية.

كما أعربت فرنسا عن مخاوف مماثلة، عندما أعلن وزير المالية برونو لومير أن "الانفتاح لا يعني نهب تقنياتنا، ومهاراتنا، وخبراتنا". ومن ناحية أخرى، ترغب الدول الأوروبية في جذب الاستثمار الأجنبي، وبالتالي أصبحت إيطاليا أول دولة عضو في مجموعة الدول السبع الاقتصادية الكبرى تؤيد مبادرة الحزام والطريق وهي البنية التحتية للطرق البرية والبحرية التي أطلقتها الصين في عام 2013. وتتوقع إيطاليا اجتذاب الاستثمار الصيني لإنعاش اقتصادها الراكد. وفي هذا الصدد، وقع البلدان عدة عقود، لا سيما في قطاع الاتصالات، بقيمة 20 مليار دولار، وقد اتخذت إيطاليا هذه الخطوة رغم المعارضة الشديدة من حلفائها في الأمن الوطني خاصة الولايات المتحدة الأمريكية.

والسؤال المطروح الآن هو ما إذا كان ينبغي للدول أن تمنع الاستثمارات الأجنبية في قطاعات معينة أم لا، ويبدو أن الإجابة هي أجل بالتأكيد. ففي بعض البلدان، على سبيل المثال فرنسا، تخضع بعض القطاعات للحصول على تصريح مسبق من الدولة للتصديق على الاستثمار الاجنبي، وتشمل تلك القطاعات النقل والطاقة والاتصالات والمياه والصحة والدفاع وحفظ البيانات والطائرات بدون طيار والفضاء والبحث والتطوير في مجالات أمن الفضاء المعلوماتي، والذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والتصنيع الإضافي (الطباعة ثلاثية الأبعاد)، والموصلات الجزئية، والهياكل المالية الأساسية. تمتلك الولايات المتحدة وبلدان أخرى آليات مماثلة للتحقق من صحة المنتج.

وعندما أعلنت شركه أمازون في 2017 عن استحواذها على شركة سوق دوت كوم وهي أكبر متجر إلكتروني في العالم العربي، أعربت بعض الجهات الفاعلة في السوق المحلية لدولة الإمارات عن قلقها. على سبيل المثال، قال محمد العبار مؤسس متجر نون ورئيس شركة إعمار، أن شركة أمازون تشكل تهديداً للسوق المحلية في دولة الإمارات. وعلى النقيض تماماً، كان رد فعل ماجد سيف الغرير، رئيس مجلس إدارة غرفة دبي للتجارة والصناعة، الذي صرح بأن شركة أمازون لا تشكل تهديداً لقطاع التجزئة في دولة الإمارات. ويشير كل من الفاعلين التجاريين إلى قضايا مشروعة تتعلق بالمصالح الوطنية. وفيما يتعلق بالأمن الوطني، ففي الصين، على سبيل المثال، يتعين على أمازون أن تتبع القوانين المتعلقة بالبيانات الإلكترونية، التي تحظر على الشركات غير الصينية امتلاك أو تشغيل تكنولوجيا معينة لتوفير الخدمات السحابية.

ما التدابير الأمنية الوطنية التي يمكن أن تعتمدها البلدان لمنع الاستثمارات الأجنبية الموجهة؟ هناك خطوات معينة يمكن أن تتخذها البلدان لحماية مصالحها الأمنية والاقتصادية الوطنية على حد سواء. ويشمل ذلك تحديد معايير تحديد الأنشطة التي يمكن اعتبارها استراتيجية ووضع خطوط حمراء للأمن الوطني. وتنطوي هذه الخطوط الحمراء على حظر عمليات الاندماج والاستحواذ على البنى التحتية التي تتصل بالأمن الوطني. وعلاوة على ذلك، يجب منع عمليات الاستحواذ الأجنبي في ظروف متحيزة، مثل تلقي دعم من الدولة، أو من خلال فرع أجنبي في بلد ما. وأخيراً، يجب على الدول أيضا أن تنفذ مبدأ المعاملة بالمثل كاستجابة لسياسة الاندماج والاستحواذ التي يتم تنفيذها في بلد الجهة المستحوذة.