الأحد 02 مايو 2021

لا شك بأنه وفي ظل التحولات التي يشهدها العالم خاصة مع الإعتماد المتزايد على التكنولوجيات الرقمية، لم يعد من المجدي التعامل مع المتغيرات على الساحة الاجتماعية والاقتصاية بنفس الأنظمة والمناهج الفكرية التي تطورت وسادت طوال العقود الماضية. ولعل المتغيرات العالمية على المشهد الاقتصادي هي الأبرز وتشكل محاور حديث واهتمامات المجتمع الدولي بكافة شرائحه، خاصة بأن مفهوم الاقتصاد أصبح أكثر ارتباطاً ليس في تحقيق المستهدفات التنموية فحسب بل بالاستقرار والأمن الوطني والعالمي.

ولعل المفهوم العام لعلم الاقتصاد لم يعد يكفي لتعريفه بالشكل المناسب في ضوء ما يشهده العالم من متغيرات على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فالاقتصاد وإن كان مرتبطاً "بالأنظمة التنموية التي تدرس السلوك الإنساني وعلاقته بالموارد والوصول إلى الاكتفاء الذاتي وتحقيق النمو والوفرة في المال، والتعامل مع الإنتاج، والتوزيع، والاستهلاك للبضائع والخدمات،" إلا أنه أصبح يتمحور اليوم حول مفهوم الأمن والذي فرض نفسه بالقوة كقطب لا يمكن بدونه اكتمال الدائرة التنموية. أي بأن "المشكلة الاقتصادية" والتي هي أساس الاقتصاد أصبح حلها معتمداً على مدى كفاية الإجابات على متطلبات الأمن الإنساني، والأمن الاجتماعي، والأمن الثقافي، والأمن السياسي، وغيره. وبلغة مبسطة، أصبح الاقتصاد يمثل جزءاً لا يمكن أن تكتمل بدونه سياسات واستراتيجيات الأمن الوطني.

ثم أن دخول التكنولوجيا الرقمية على المشهد الاقتصادي  - وهو ما يرمز له بالاقتصاد الرقمي - كقوة دافعة، أصبحت تغير المفاهيم الاقتصادية التقليدية وقواعد التجارة والقدرات التنافسية، وعكست أثاراً عميقة وهائلة على مستقبل الاقتصاد العالمي واستقرار الشعوب والمجتمعات. فبروز المجتمعات الرقمية - المعتمدة على توظيف التكنولوجيا في كل مناحي الحياة والعمل - غدت تغير من الهياكل والنظم السلوكية والاجتماعية المعتادة في المجتمعات الإنسانية. فالتغلغل التكنولوجي في مجتمعاتنا المتصلة بالإنترنت والشبكات الإلكترونية والتي تتميز بمعدومية الحدود والخصوصية، باتت تُظهر عجز الأنظمة التقليدية في التعامل معها وخاصة منظومات الأمن الوطنية.

إن المسائل المستجدة والتحديات الأمنية التي يفرضها الاقتصاد الرقمي على الأمن الاقتصادي المحلي أو العالمي، تستدعي من المجتمع الدولي وعياً أعلى بالمحاور الأساسية والمُشّكلة لدعائم الأمن الوطني للاستعداد الأمثل وبناء القدرات وحماية المكتسبات والبنى التحتية وضمان استدامة الدورة التنموية على كافة الأصعدة.

الاقتصاد ومحاور الأمن الوطني الأساسية
من واقع الممارسات الدولية للحكومات في العالم، فإن الأجندات والخطط الوطنية المرتبطة بتحقيق الأمن والاستقرار في المجتمعات، ترتكز على ثلاثة محاور رئيسة، هي الاقتصاد والمجتمع والأمن. ولكن التكنولوجيات الناشئة في الاقتصاد الرقمي أصبحت ترفع من درجة التعقيد في الوصول للحلول وتحقيق المستهدفات بالشكل التي كانت عليه في السابق.

المحور الاقتصادي
يركز هذا المحور على تعزيز القدرات الإنتاجية بغرض تحقيق فوائض في الميزان التجاري، والتوظيف الشامل لكافة المواطنين، وتحقيق الاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية وتأمين احتياجات الأجيال الجديدة. ويشكل هذا المحور خط الدفاع الأمني الأول بأي مجتمع حيث يمثل استيعاب المواطنين والسكان في سوق العمل، التوجيه الرئيس للنوازع الإنسانية الداخلية نحو البناء والتطوير، ومن ثم تنصرف بالكلية عن الانحراف، وتمنع ظهور الرغبات غير السوية، حيث تساعد الإنسان على السلوك القويم والتطوير الذاتي لتحسين الدخل وتحقيق جودة أفضل في حياته وحياة من يعول، وهو ما يعني أن هذا المجتمع يكتسب مناعة ضد أي محاولات التثوير والإغضاب وخلق حالات عدم الرضا. ووفق التقديرات العالمية فإن التكنولوجيا الرقمية ستحل محل 75 مليون وظيفة بحلول عام 2022، وسيحتاج ما بين 40 مليون إلى 160 مليون في جميع أنحاء العالم بحلول عام 2030 إلى إعادة تأهيل والانتقال إلى وظائف مهارية أعلى، وهو الأمر الذي ينذر بتفاقم نسب البطالة خاصة في المجتمعات العربية ويحمل في طياته آثاراً مدمرة تبدأ من الاضطرابات السلوكية للأفراد وتنتهي إلى الجريمة.

المحور الاجتماعي
يركز هذا المحور على استيعاب الأنشطة الإنسانية بشكل عام، ومنها الأنشطة الثقافية والرعاية الإنسانية، واحتواء الفئات الضعيفة والتنمية البشرية. ويمثل هذا المحور مع المحور الاقتصادي خطوط الردع الأساسية، إلا أننا نضعه في المرتبة الثانية رغم أهميته القصوى، حيث إن كافة الخدمات المجتمعية وامتلاك القدرة على تطويرها سيحتاج في المقام الأول لقدرات اقتصادية لإنفاذها، وهو ما يعني بأن المجتمعات الأقل حظاً (الفقيرة)، سنجدها على الأغلب لديها مشكلات اجتماعية، مع صعوبة في علاجها على الصعيد الشخصي والمجتمعي، مما يجعل كثير من الفئات المهمشة ناقمة وتَكِّن مشاعر انتقامية أو يسهل تأجيج هذه المشاعر لديها استغلالاً للوضع الاقتصادي والاجتماعي. وقد كان لشبكات ومنصات التواصل الاجتماعي في الاقتصاد الرقمي دوراً كبيراً في إضافة بُعد لم يكن ليصل إلى خيال الإنسان قبل ظهور (الإنترنت)، بأن يجعل من العالم قرية كونية صغيرة تنصهر فيها المجتمعات والانتماءات القومية والحضارية والدينية، وتستبدل بالانتماء العالمي. وأصبح ذلك يجر معه مخاطر العولمة التي لم تعد تنحصر في الهوية الثقافية أو السلع والخدمات الرقمية بل تمثل تهديداً لمرتكزات الوحدة الوطنية والأمن والاستقرار في المجتمعات.

المحور الأمني
يمثل هذا المحور خط الدفاع الأخير لحفظ الأمن والاستقرار، حيث يساهم في خلق الردع اللازم لمنع الجريمة بالتوازي مع القانون والعدل. ويتجه هذا المحور لتأمين الجبهة الداخلية الوطنية، ويتكامل مع المنظومة العالمية لإقرار الأمن، وهو الهدف الذي يستوجب توفير الحماية اللازمة للداخل أمام أي اعتداءات أو تهديدات خارجية والتي قد تأتي في صور مختلفة بهدف الإضرار بثوابت الوطن وهي: المواطن والأرض والقدرات الاقتصادية والحالة المجتمعية.

ونجد بأن حروب اليوم لم تعد كحروب الماضي حيث تلتقي الجيوش على الحدود أو بالبحار لتتصارع نيابة عن مجتمعاتها، فهذا الشكل من التهديدات الأمنية أصبح تقريباً من الماضي، ولكن نجد بأن الجيل الرابع من الحروب - والتي مهدت لها ومكنتها تكنولوجيات الاقتصاد الرقمي والمعتمدة على (الإنترنت) والشبكات الرقمية - أضحى يستهدف اختراق الجبهة الداخلية وتنفيذ المعركة من خلال ضرب الداخل بالداخل، وخلق صراعات محلية لتستهلك القدرات الاقتصادية والإنسانية والمجتمعية بشكل كامل، وهو ما نراه أكثر ضرراً من الحروب المباشرة التي لا تخلف كل تلك الأضرار؛ إذ على الأقل، تبقى الجبهة الداخلية متماسكة في مواجهة العدو الخارجي المرئي.

أمن الإنترنت والشبكات الرقمية
اليوم أصبحت الشبكات الرقمية والذكية مهيمنة بصورة كبيرة على مظاهر الحياة مثل نقل الطاقة وحركة المرور والأنظمة الحكومية وتحصيل الضرائب والجمارك وأمن المطارات ورقابة المنافذ والحدود وما إلى ذلك من أمثلة تفوق الحصر، وهو ما يجعل تعريض تلك الشبكات للخطر ليس بالأمر المحتمل ولا الممكن أحيانا. فانهيار منظومة عمل ما قد تقود لكارثة لا تنتهي آثارها بسهولة وبسرعة، وقد تكلف المليارات بل التريليونات لعلاج تلك الآثار واستعادة الأعمال لطبيعتها. وتشير بعض التقارير أن التكلفة العالمية للأمن السيبراني والرقمي قد يصل إلى ستة تريليونات دولار في العام المقبل 2021، وتتوزع تلك التكاليف ما بين تكلفة الحماية والوقاية وتكلفة العلاج والخسائر الناجمة والمتسلسلة عن وقوع الأحداث.

ويمثل هذا النوع من التهديدات خطورة كبيرة نظراً لسهولة شنها وانخفاض التكلفة وجسامة النتائج المترتبة بحال نجاحها، وخاصة في ظل استخدام هذه الجهات المهاجمة لتكنولوجيات الاقتصاد الرقمي الاستراتيجية المتمثلة في الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة وقدرات الحاسوب المتسارعة في تكثيف تلك الهجمات وتعقيدها.

لا تحمل شبكات (الإنترنت) والشبكات الرقمية فقط مخاطر الهجمات السيبرانية بل تحمل أيضاً هجمات الأفكار وصناعة البروباجاندا. فقد تضررت العديد من المجتمعات بالعقد الأخير من سيولة الأفكار الهدامة وسهولة وصولها للمجتمعات المختلفة ولا سيما المجتمعات العربية التي تم استهدافها من خلال مواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك أو تويتر والتي تم استخدامها كمنصات لتجارة الأفكار وتبادلها بسهولة كبيرة وبلا رادع تقريباً.

ضرورة حوكمة التكنولوجيا الرقمية
هناك حاجة حقيقية إلى تفعيل العديد من الآليات والاستراتيجية المتكاملة من أجل تعظيم العائد من الاقتصاد الرقمي وتخفيض مخاطره المحتملة. ومن بين الموجهات التي لا بد لصانع القرار والمخطط الانتباه إليها، هي:
1. الوعي والمعرفة الاجتماعية: إن المجتمع المتعلم المثقف والمؤهل معرفياً للتعامل مع مستحدثات العصر وأدواته والمتمتع بعقلية نقدية هو مجتمع يتمتع بمناعة كبيرة في مواجهة المخاطر التي تصله بطرق مختلفة وسيدرك بسهولة أغراض موجهيها الذين يستهدفونه، وهو أيضاً المجتمع الذي سيكون قادراً على الاستغلال الأمثل لإمكانات الاقتصاد الرقمي والتقنيات الذكية وتسخيرها من أجل منفعته واستقراره ونموه اقتصادياً.

2. التوسع في الاستخدامات الأمنية للتكنولوجيات الناشئة: الذكاء الاصطناعي كمثال، يعتبر وسيلة ذات عائد استراتيجي لا يمكن الالتفاف على القدرات غير المسبوقة لهذه الأنظمة في سرعة تحليل البيانات وبأحجامها الكبيرة، والربط بين المعلومات المختلفة ومن مختلف المصادر ودمجها لاستخراج تقارير مفيدة والكشف عن الأنماط الضارة ودعم صانع القرار الأمني. كما يمكن لمنظومات التكنولوجيات الرقمية الذكية أن تواجه بشكل مستقل الهجمات السيبرانية وتكتسب المعرفة والخبرة الذاتية من الأنظمة الشقيقة لإيقاف مخاطر أي أخطار مستحدثة وبدون التدخل البشري المعتاد.

3. عدم الإخلال بالوظائف: وفق احصاءات المنتدى الاقتصادي العالمي، فإنه وعلى الرغم من أن الوظائف الجديدة التي ستخلقها التطورات التكنولوجية في الاقتصاد الرقمي ستكون ضعف الوظائف المتجهة للإنقراض - 133 مليون وظيفة جديدة ستنشأ بحلول 2022 - إلا أن التعامل مع هذا المتغير يعد معقداً جداً من الناحية التنفيذية. فلو ضربنا مثال لفقدان سائق مركبة أجرة لوظيفته جراء أنظمة النقل الذكية، فلن يكون من السهل تحويله هذا الفرد إلى متخصص في علم البيانات أو كمبرمج كمبيوتر، وهو ما يعني بأن المخطط الاستراتيجي عليه أن يقدم الدراسات والمنهجيات اللازمة لتأمين هذه العملية من التحول وتوفير البدائل المختلفة، خاصة في التوسع بالاستثمارات التي تحتاج العامل البشري، وتقييد التخلص من الموظفين إلا بعد تأهيلهم، وتوفير التأمين الاجتماعي. فالتاريخ يؤكد بأن أمن واستقرار المجتمعات مرتبط بأدوار أفراده للمشاركة في التنمية ومدى قدرتهم على الحصول على الوظائف وكسب عيشهم بشكل مستقر.
كل ما ذكر في هذه المقالة الموجزة لا يعد سوى كونه الجزء الظاهر من المسائل التي أصبح الاقتصاد الرقمي يدفع بها على طاولة صُنّاع القرار وجهات التخطيط لمواجهة التحديات وانتهاز الفرص المتاحة، الراهنة والمستقبلية، وتستوجب دراسات خاصة وتفصيلية في هذا المجال الدقيق لفهم الصورة الكلية. والمعلوم حتماً بأن الآليات المختلفة للاقتصاد الرقمي ستستمر في تعميق أدوارها في مجتمعاتنا الرقمية، ولن يكون بإمكان عجلة التنمية الاقتصادية أن تدور دونها. وذلك يستدعي تطوير آليات التعامل مع التحديات والفرص في العصر الرقمي بنفس أدواته الثورية الجديدة، وترتكز عليها الأنشطة الأمنية والوقائية. ولا خيار سوى تَقبل هذه الحقيقة.