الثلاثاء 01 يونيو 2021

لوحظ في الفترة الأخيرة التغير الجذري في سياسات تركيا الخارجية تجاه عدد من الملفات الساخنة والتي بدورها اثرت على سياسات الدول في المحيط الإقليمي. ويمكن القول بأن تركيا لا تمتلك أي استقرار سياسي في العلاقات الدولية، فقد عاشت في الكثير من الفترات حالة من الاغتراب السياسي في الكثير من الملفات، ونسجت علاقات وثيقة مع قوى الفوضى والانفلات في الشرق الأوسط، وخاصة في العراق وليبيا وسوريا. وقد أفضى ذلك السلوك إلى انعدام الاستقرار الاقتصادي لارتهانه بشرط الاستقرار السياسي. وقد كانت نتيجة تلك السياسات المتقلبة والمزاجية إلى تشكل عداء مع دول مجلس التعاون الخليجي تجلى في العديد من المواقف منها:

التهجم على مصر ومعاداتها وحماية ومساندة الإخوان ودعمهم من خلال السماح لهم في فتح القنوات الإعلامية في تركيا، وايواء قيادات الإخوان فيها.
التهجم على المملكة العربية السعودية، وهذا أثر سلباً وبشكل كبير على طبيعة العلاقات بين المملكة وتركيا وخاصة في قضية الصحفي خاشجقي.
الموقف السلبي الذي اتخذته تركيا تجاه المقاطعة الخليجية، حيث لعبت دوراً سلبياً في هذه المشكلة.
اتخاذ العديد من المواقف المعادية الذي انتهجته السياسة التركية ضد دولة الإمارات العربية المتحدة، واتهام أنقرة لأبوظبي بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة، وهو الأمر الذي نفته الإمارات بشدة.
التوغلات التركية وعزم أنقرة على انشاء قاعدة عسكرية في محافظة دهوك شمال العراق.
دعم وارسال المرتزقة إلى ليبيا الذي كان له الأثر السلبي على القضية الليبية.
التدخل العسكري التركي في سوريا خلال الثورة السورية.

أدت جميع هذه المواقف إلى توتر العلاقات بين تركيا والخليج العربي، وقد أثر هذا التوتر بشكل كبير على تركيا وكان له العديد من التداعيات السلبية منها:
خسارة تركيا في جميع هذه الملفات ولم تحقق أي شيء يذكر.
دعم الإخوان من قبل تركيا لم يجدي نفعا.
تركيا لم تحقق أي شيء يذكر في ملف القضية الليبية، بل أغضبت الاتحاد الأوروبي والعالم في هذا الملف.
اغلاق المدارس التركية في السعودية شكل ضربة موجعة لنشر الثقافة التركية في المملكة العربية السعودية.
خسائر الاقتصاد التركي بسبب انخفاض التجارة بين المملكة وتركيا بنسبة 98 في المئة بعد مقاطعة غير رسمية للبضائع التركية من قبل الشركات في المملكة، رداً على ما وصفوه بالعداء من أنقرة، بالإضافة إلى أن الإمارات تأتي ضمن أكبر 20 دولة على مؤشر الصادرات والواردات السلعية لتركيا، وتعتبر الإمارات أحد الأسواق المهمة بالنسبة للمنتجات التركية، كما يعتمد الاقتصاد التركي على التدفقات الاستثمارية، حيث تعد الإمارات ضمن الأرقام المهمة في الاستثمار الأجنبي في تركيا.
بالإضافة لذلك تكبدت تركيا خسائر اقتصادية فادحة في مجال العقارات والاستثمار، لأن المستثمرين السعوديون في تركيا يحافظون على وجودهم ضمن المراتب المتقدمة بين المستثمرين الأجانب للعقارات في تركيا. 

واليوم تشهد العلاقة بين تركيا والإمارات والسعودية ودول مجلس التعاون الخليجي في الفترة الحالية تبادلاً للرسائل الإيجابية وتقارباً كبيراً، وخاصة بعد عملية المصالحة الخليجية، إذ تعتبر أنقرة من أوائل الدول التي أصدرت بياناً مرحباً بالمصالحة الخليجية. لقد شكلت المصالحة الخليجية انعكاساً على العلاقات الخليجية مع تركيا، ولكن على تركيا البدء بمعالجة الأخطاء التي ارتكبتها تجاه الدول العربية. وكان المستشار الدبلوماسي لصاحب السمو رئيس الدولة، أنور قرقاش، قد صرح لوكالة "بلومبيرغ" الأميركية، "بأن أبوظبي هي الشريك التجاري الأول لأنقرة في الشرق الأوسط"، مضيفاً: "نحن لا نعتز بأي خلافات مع تركيا"، واعتبر أن "المشكلة الرئيسة للإمارات مع تركيا، تكمن في سعي أنقرة إلى توسيع دورها على حساب الدول العربية". كما صرح معالي أنور قرقاش بقوله خلال مقابلة مع قناة "سكاي نيوز: "نقول لتركيا بأننا نريد علاقات طبيعية تحترم السيادة، لا يوجد لدينا أي سبب لكي نختلف مع تركيا، فلا توجد مشكلة، ونرى اليوم أن المؤشرات التركية الأخيرة مثل الانفتاح مع أوروبا مشجعة". من هنا صرح الساسة الأتراك بأن تركيا تأمل في إنهاء المقاطعة مع الدول الخليجية، وخلق علاقات أكثر إيجابية وخاصة مع السعودية.

ومن ثم، فإن تركيا اليوم مطالبة أكثر من أي وقت مضى، بأن تحاول تطوير سياساتها، بدلاً من التدخل بشكل كبير في الشؤون الداخلية للدول العربية، وإعادة النظر في طبيعة علاقاتها المتشنجة مع مصر والسعودية والامارات، وأن تدرك بأن الطريقة الصحيحة للعودة إلى المنطقة بصورة مقبولة، ويمكن تحقيق ذلك عبر إقامة اتصال دبلوماسي بناء، وتقديم مبادرات تعاونية أكثر إيجابية تصب في صالح دول المنطقة وشعوبها.

وهناك العديد من الميزات والإيجابيات في التقارب التركي الخليجي لوجود العديد من القضايا المشتركة التي تربط هذا التقارب، وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، ويتجلى ذلك في العديد من القضايا:
المساهمة في حل العديد من القضايا العربية العالقة في ليبيا، والعراق، والأزمة السورية.
تحقيق المصالح الاقتصادية المشتركة بين هذه الدول، حيث أن التكامل الاقتصادي يحقق الربح لجميع الأطراف.
التعاون في القضاء على الإرهاب والتنظيمات الإرهابية (داعش)، وتنظيم الإخوان المسلمون.
إن ملف المصالحة الخليجية بين قطر والسعودية والإمارات والبحرين يفتح طريق هام لدعم التعاون السعودي التركي ويخلق حالة من التوازن الأمني الإقليمي في المنطقة.

أما المصالح الاستراتيجية التي ستجنيها تركيا من التقارب التركي الخليجي فتتجلى في:
دعم الاقتصاد التركي المتقلب ودعم الليرة التركية غير المستقرة وإنقاذ أزمتها، وأيضا انتعاش الاقتصاد التركي بالاستثمارات الخليجية.
يساهم التقارب في دفع السياسة التركية إلى تحقيق اتفاقيات اقليمية ودولية جديدة تكون لتركيا فيها امتيازات هامة.
بحث تركيا عن دور إقليمي كقوة إقليمية ووسيط هام في الصراعات وخاصة في منطقة الشرق الأوسط كونها طرف هام في القضايا المهمة (العراقية، السورية، الليبية). 
يساهم هذا التقارب في تحسين صور ة تركيا أمام الاتحاد الأوروبي، وهذا يساهم لحد ما في قبول عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي.
التخفيف من حدة المقاطعة غير الرسمية للمنتجات التركية، وعدم إغلاق المدارس التركية في السعودية.
إن اهتمام تركيا بمنطقة الخليج العربي وعقد التحالفات مع دول الخليج العربي يمثل لتركيا دائرة إقليمية بديلة وقوية يمكن الاعتماد عليها في حال رفض الاتحاد الأوروبي لها.
يعمل التقارب التركي الخليجي على تأكيد الوجود التركي في كافة الساحات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية لقضايا الشرق الأوسط.
تطمح تركيا من وراء تقاربها مع دول الخليج العربي، إلى تهدئة جبهاتها مع كافة الأطراف في المنطقة وخاصة مصر، من أجل التفرّغ لترتيب وضعها الداخلي، والعمل على حل العديد من المشكلات السياسية والاقتصادية؛ حيث اهتمام الحزب الحاكم في تركيا؛ يتمثل في القضايا الداخلية مثل (ضعف هيمنة حزب الحاكم في الآونة الأخيرة، النقاشات المثارة حول موضوع الدستور، والإصلاحات الاقتصادية، وموضوع انتخابات 2023).

أما المصالح الاستراتيجية التي ستجنيها دول الخليج العربي من التقارب التركي الخليجي فتتجلى فيما يلي:
تسعى السعودية ودول الخليج لبناء تحالفات إقليمية جديدة وقوية وهذا ما يساهم فيه التقارب.
الدور التركي المهم والكبير الذي تؤديه من خلال المصالحة الخليجية لبعض دول الخليج في حل خلافها مع قطر.
استفادة السعودية من التصنيع الدفاعي التركي ويتجلى ذلك من خلال صناعة الطائرة المسيرة HABOOB التركية ونقل هذه التكنولوجيا إلى السعودية.
تركيا ذات قوة إقليمية رئيسية في منطقة الشرق الأوسط في ظل الانتصارات المهمة التي حققتها في العديد من الملفات أبرزها تغيير المشهد العسكري بشكل جوهري في ليبيا وأذربيجان وسوريا.
إن التقارب الخليجي التركي يساهم في مواجهة الدور الإيراني السلبي والتهديدات الإيرانية من خلال وكلائها في اليمن والعراق ولبنان وسوريا.

تأثير التقارب التركي الخليجي على السياسة الخارجية الأمريكية باتجاه الشرق الأوسط:
التقارب التركي الخليجي له دور مهم جداً بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية، لأن العلاقات التركية الأمريكية ذات شراكة استراتيجية قوية وفاعلة، وخاصة أن أمريكا وتركيا عضوين في منظومة حلف الناتو، ولتركيا دوراً فاعلاً في أجندة السياسة الخارجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وأضحت تركيا أحد المرتكزات الرئيسية والهامة لأي توجه سياسي بالنسبة لأمريكا في أحد المناطق المهمة في العالم وفي منطقة الشرق الأوسط.

لذلك، التقارب الخليجي التركي مهم جداً بالنسبة للسياسة الأمريكية، حيث يخفف هذا التقارب من النفوذ الإيراني المزعزع للاستقرار والأمن في منطقة الشرق الأوسط. ومن مصلحة الولايات المتحدة الامريكية أيضاً أن ترى دول الخليج في حالة تقارب مع تركيا، لأن ذلك يساهم في كسر كبح طموح إيران وغطرستها العدوانية اتجاه دولة الخليج العربي، خاصة دعمها للحوثيين في الحرب اليمنية، ودورها السلبي في العراق وسوريا، من خلال دعم المليشيات المسلحة في مناطق الصراعات وهذا يجعل منطقة الشرق الأوسط غير مستقرة. بالإضافة لذلك، تشهد منطقة الشرق الأوسط حضور متنامي وكبير لكلا من الصين وروسيا في الشرق الأوسط مع سعيهم الدائم ليكون كلا منهما “فاعلاً رئيسياً “في قضايا المنطقة، وهذا يمثل تحديا كبيرا للنفوذ الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط. فالتقارب التركي الخليجي يساهم في الحد من هذا النفوذ وقد أعربت السياسة الخارجية الأمريكية في أكثر من مناسبة عن قلقها البالغ من التعاون الاقتصادي بين الصين وإيران. ومما لا شك فيه أن الاتفاقيات الاستراتيجية بين الصين وإيران تضر بالمصالح الخليجية لأنها ستعزز قدرات إيران الاقتصادية والسياسية والعسكرية، لذلك تسعى السياسة الأمريكية لدعم التقارب الخليجي التركي. لذلك تنظر السياسة الخارجية الأمريكية لدور تركيا المهم في استقرار منطقة الشرق الأوسط، وتحاول هذه السياسة إبعاد تركيا عن تعزيز علاقاتها مع روسيا والصين بشكل أكبر ومن هنا أيدت السياسة الأمريكية التقارب التركي الخليجي. 

إن السياسة الخارجية الأمريكية لن تخاطر بإبعاد دول الخليج العربي تماماً في منطقة الشرق الأوسط، بحكم دورهم في الاستقرار الإقليمي والمستقبلي لسوق الطاقة، وللعلاقات التجارية المتزايدة معهم. وترى السياسة الأمريكية الخارجية المحور التركي الخليجي على أنه محور الاعتدال في مواجهة محور إيران محور التشدد، لأن هناك صراع كبير بين إيران وتركيا على الساحة العربية. لذلك من الطبيعي أن تشجع السياسة الأمريكية الخارجية في منطقة الشرق الأوسط على محور الاعتدال الذي يضم مجموعة دول (6+3)، وهي دول مجلس التعاون الخليجي إضافة إلى مصر والأردن والعراق. ومن المفضل لدى السياسة الأمريكية الخارجية دعم التقارب التركي الخليجي، لأن ذلك يساهم في التخفيف من التهديدات والتحديات والتوترات الذي تظهر قوى جديدة في منطقة الشرق الأوسط المتمثلة في إيران وزعزعة الاستقرار، بالإضافة لوجود اتفاقيات خطيرة بين إيران والصين.

من أجل ذلك، تسعى السياسة الأمريكية في المنطقة لإعادة ضبط التحالفات والعلاقات وموازين القوى في منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي فإنّ التقارب التركي الخليجي أصبح نوعًا من أنواع التهدئة، وأصبحت أمريكا تركز على هذا التقارب وتدعمه، وتسعى هذه السياسة إلى مواجهة المخاطر التي تتلقاها يوما بعد يوم من قبل النفوذ الإيراني وخاصة ما يحدث في العراق، بالإضافة لذلك دخول الصين على الخط في مواجهة المصالح الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، بالإضافة لتوسع روسيا في المنطقة.

بناء على ما ذكر يمكن القول بأن التغير في بوصلة سياسات تركيا الخارجية نتج عن عدة عوامل منها الداخلية (الشأن الداخلي وما نتج عن ضعف هيمنة حزب الحاكم) والخارجية (النظرة السلبية تجاه تركيا من المجتمع الأوروبي). إن التقارب التركي الخليجي يعتبر تغيراً جوهرياً في قلب موازين القوى في منطقة الخليج العربي والتي من شأنها أن تحد من التهديدات الإيرانية ووكلائها في المنطقة بالإضافة إلى حلحلة بعض الملفات السياسية (العراقية، السورية والليبية). ومن السمات الإيجابية للتقارب التركي الخليجي التعاون في القضاء على الإرهاب ودعم الاستقرار ما يخلق حالة من التوازن الأمني الإقليمي في المنطقة وبالتالي تحقيق المصالح الاقتصادية المشتركة بين هذه الدول لارتهانها بشرط الاستقرار السياسي والأمني.