الخميس 01 مارس 2018

يدرس خبراء استراتيجية الأمن القومي كلاً من النظرية والتطبيق على حد سواء؛ لأن الفوز بالحروب المعقدة يتطلب اجتماع كلا الأمرين. ومن شأن التفكير بأسلوب نقدي حول الفرضيات والمنطق والأدلة أن يساعدنا على استشراف التهديدات التي تواجه الأمن القومي، ولا سيما التهديدات التكيفية التي تستهدف نقاط الضعف في التفكير، مثل الافتراضات المتأصلة والمنطق الخاطئ، أو حتى التوصيفات الوظيفية للوضع الراهن.
 
وتشمل التهديدات غير المتماثلة المتطرفين الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي لتجنيد شبابنا ورميهم في حمأة التطرف، والمتصيدين عبر الإنترنت الذين يصنعون قادة الرأي، والروايات التي تسهم في صوغ التصورات وتشكيلها.
 
وهذه التهديدات حقيقية، ولكنها بدأت كمفاهيم مبتكرة ذات انعكاسات تخريبية؛ مثل العمليات الموزعة والمنسقة عبر الشبكات الافتراضية التي تستغل نقاط الضعف. ويتطلب تحييد التهديدات الخلاّقة تخيل: كيف يمكننا تحويل المؤسسات بحيث نتفوق بتفكرنا وتخطيطنا على الخصوم النشطين؟ وكيف يمكننا تأمين تقنيات جديدة تعتمد على البيانات المشتركة بشكل مفتوح؟ ذلك أن كسب الحروب الحديثة المتعددة الميادين والمجالات تمثل صراعاً مستمراً للحصول على مزايا ومنافع في تنافس غني بالمعلومات بين الأفكار والممارسات. 
 
ومن أجل إعداد القادة لهذه البيئة القاسية التي تتطلب الكثير من الجهد والبراعة، لا تقتصر كلية الدفاع الوطني على تدريس الأمور العسكرية، بل نشجع أيضاً التفكير في الأمور المستقبلية التي لم يسبق لأحد تصورها. وعلى سبيل المثال، فإن جانباً كبيراً من الأدبيات المتعلقة باستراتيجية الدفاع يهتم بأمور مجردة حول طبيعة النظام العالمي ودينامياته. وعادة ما تتوجه الأسئلة النظرية إلى الاستفسار عن أسباب سعي الدول لتحقيق التوازن مع قوة صاعدة، أو عن سبب تفضيلها التحالف معها. كما تعنى النظريات بدراسة أسباب نشوء أنماط توزيع القوة؛ مثل الأنظمة أحادية القطبية وثنائية القطبية والمتعددة القطبية، ووضع فرضيات حول عواقب التغيير.
 
إننا - كمهنيين متخصصين - غالباً ما نستبعد الأسئلة التي تتعلق بالأسباب، حيث تستنزفنا - كما هو حالنا - الإجراءات الروتينية اليومية المتعلقة بكيفية تحقيق الأمن. كيف ينبغي تعريف الأمن القومي من حيث الأهداف القابلة للتنفيذ؟ ما هي أفضل السبل لاستخدام الموارد الوطنية، وضد أية تهديدات ومن أجل إتاحة أية فرص؟ وما هي أولويات ومخاطر الميزانية المناسبة فيما يتعلق بأوضاع السوق والظروف السياسية؟ هذه هي المشاكل العملية التي تواجه القادة وتمثل تحدياً للخبراء الاستراتيجيين. ومع ذلك، فإنه غالباً ما يتحدد شكل أعمالنا وتصرفاتنا من خلال افتراضات حول أسباب تلك الأوضاع والظروف.
 
يتجه الخبراء الاستراتيجيون إلى استخدام الأطر القائمة على نهجين أساسيين تجاه الأمن الدولي، هما: الليبرالية والواقعية. وتختلف هذه النظريات فيما يتعلق بالافتراضات المتعلقة بالطبيعة البشرية: هل هي طيبة أم سيئة بالفطرة. وينطوي إسناد النية إلى السلوك على الغموض والمخاطر، علماً أنه لا يمكن تجنب ذلك. ولعل اتخاذ القرارات بناء على نظريات مختلفة يزيد من قدرتنا على وضع استراتيجيات متنافسة وتقييمها. وكذلك يستطيع القادة أن يكونوا مصدر إلهام للشعب للعمل على أساس القيم المشتركة. كيف؟ انظر كيف يستطيع القائد تحويل ما يعتبره الكثيرون تهديداً إلى فرصة سانحة. فعلى الرغم من أن الوالد المؤسس، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، كان محاطاً بدول قوية، ويواجه التزامات داخلية متقلبة، إلا أنه كان يدرك أنه بحاجة إلى التغيير مع الوحدة. فمن الناحية النظرية، كان الجميع يدركون أن التغيير ضروري من أجل التحديث والتطوير.
 
غير أنه من الناحية العملية كانت الانقسامات المحلية تحبط توفير الموارد للإجراءات والترتيبات التي من شأنها أن تؤدي إلى التغيير، وكانت القوى الخارجية تكرّس تلك الخلافات. غير أن الشيخ زايد، رحمه الله، الذي كان المثل الأعلى الملهم لدولة مستقلة ذات سيادة نجح في توحيد الإمارات المتفرقة، وكان  مصدر إلهام للتغيير برؤية كانت تعد أمراً نظرياً في ذلك الوقت. بإمكان القائد وضع فرضيات لإيجاد طرق «غير واقعية» للخروج من حالة إشكالية.
 
وفي الوقت الذي تحيط بدولة الإمارات العربية المتحدة حالة تتمثل في الأسلحة المتنقلة، وانتشار الأسلحة النووية، والحروب الأهلية، والتدهور البيئي، يضع قادة الإمارات تصوراً للمضي قدماً؛ ومثال ذلك أن رؤية الإمارات 2021 تضع بكل جرأة ستة أهداف أو محاور تتمثل في: مجتمع متلاحم محافظ على هويته، واقتصاد معرفي تنافسي، ونظام صحي بمعايير عالمية، وبيئة مستدامة وبنية تحتية متكاملة، ونظام تعليمي رفيع المستوى، ومجتمع آمن وقضاء عادل. ولا بد لتحقيق هذه الأهداف من مزج النظرية بالتطبيق والممارسة، وهذا يتطلب وضع استراتيجية، وهو موضوع مقالتي المقبلة.