الأربعاء 05 فبراير 2020

تعد الدبلوماسية القسرية أحد الإستراتيجيات المتبعة في تحقيق أهداف السياسة الخارجية، كما تعد من أفضل البدائل اللينة في حل الصراعات الدولية، وأكثرها كفاءة في توظيف مصادر القوى الوطنية، ومواجهة الأعداء دون اللجوء إلى العنف الصريح. وأصبحت هذه الإستراتيجية القائمة على الإكراه تطبق على شكل متزايد في الآونة الأخيرة، لا سيما مع احتدام الصراعات في المنطقة وتنامي شوكة الدول المارقة، وتراجع رغبة الدول الكبرى في استخدام القوة الصلبة؛ تجنباً للتورط في حروب باهظة، وطويلة الأمد، وعصية على الإنفراج كما هو الحال في أفغانستان. 

إن من الأهمية بمكان للمنظرين والعاملين في ميدان السياسة التوصل إلى فهم عميق للعلاقة المركبة بين تطبيق الدبلوماسية القسرية من جهة ونجاحها من جهة أخرى، فلا "يجب حشر السياسة في سبطانة بندقية"، ولكن بالرغم من مركزيتها كأداة لإدارة الأزمات الدولية، إلا أن معدل نجاح الدبلوماسية القائمة على الإكراه في الواقع ضئيل، حيث يشير أحد البحوث الأكاديمية بأن الدول الغربية أفلحت في تطبيق هذه الإستراتيجية في 5 حالات فقط من أصل 37 حالة في الفترة (1990-2005)، وحتى لا يكون معدل الفشل مدعاة للإحباط الذي قد يعتري الكثيرين في العمل السياسي، ودفعاً للالتباس في هذا الشأن، سيلقي هذا المقال نظرة على مفهوم  الإكراه في الدبلوماسية ويرصد أهم العلاقات التفاعلية من خلال الإجابة عن التساؤلات التالية: ما هي الدبلوماسية القسرية؟  وماهي العوامل التي تزيد من فرصة نجاحها؟ ولماذا يصعب تطبيقها في حل الخلافات الدولية؟ 

ما هي الدبلوماسية القسرية؟
تعرف الدبلوماسية القسرية، أو القهرية، أو الإكراه الإستراتيجي، بإستراتيجية التفاوض من خلال التلويح باستخدام القوة لإجبار الخصم على تغيير سياسته أو تنفيذ مطالب معينة. في هذه الحالة، لا يتم استخدام القوة العسكرية، أو يتم استخدامها بشكل محدود جداً أو بشكل تحذيري لاستيعاب العبرة وتعزيز مصداقية الدولة الضاغطة على قدرتها على إلحاق الضرر. بل إن اللجوء للقوة هو بحد ذاته مؤشر على فشل الدبلوماسية القسرية، فالحرب هي آخر خيار لتحقيق الأهداف، لأنها وسيلة باهضة التكاليف وغير مضمونة النجاح. وبالإضافة إلى التهديد العسكري، تشمل الدبلوماسية القسرية عدة وسائل أخرى غير قتالية منها: فرض العقوبات الإقتصادية، والعزلة السياسية، والهجوم الإلكتروني ودعم قوى المعارضة، وشن الحملات الإعلامية المناهضة، وهي إجراءات يقصد بها وضع صناع القرار في الدولة المستهدفة تحت أقصى ضغوط لتغيير سياساتهم والإذعان لمطالب الدولة الضاغطة. ولقد تم تنقيح مفهوم الدبلوماسية القهرية وتطبيقه بكثافة في إدارة الأزمات خلال الحرب الباردة، سعياً لتجنب اندلاع حرب نووية لا تبقي ولا تذر بين الدول العظمى. وتشمل إستراتيجية الإكراه مفهومين رئيسيين هما الردع والإجبار، حيث يسعى الردع إلى إقناع العدو بعدم القيام بعمل ما لأنه سيترتب عليه تكبيده أضرار وعواقب تفوق ما كان يرغب في تحقيقه، وبهذا فهو يعتمد على الخوف من الانتقام، ويهدف للمحافظة على الوضع الراهن دون تغيير. أما الإجبار، فهي استراتيجية يتم فيها دفع الدولة الخصم لتغيير سياسة ما، إما التوقف عن عمل قد بدأته أو تنفيذ مطلب قد أمتنعت عنه، وهذا يجعل تطبيق الإجبار بالغ الصعوبة، لأنه يستدعي تغيير واضح في موقف القيادة السياسية المعادية واحتمال فقدانها لماء الوجه.

مقومات الفاعلية للدبلوماسية القهرية
تشير العديد من الدراسات في العلاقات الدولية إلى وجود قاسم مشترك بين الحالات التي تكللت فيها الدبلوماسية القهرية بالنجاح، حيث توفرت الشروط التالية: (1)  أن يكون التهديد ضد الدولة المستهدفة واضحاً لا لبس فيه ولا مداورة (2) أن تمتلك الدولة الضاغطة المصداقية في الوفاء بالتهديد واستخدام القوة بشكلها الصلب والعنيف، وأن يستقر ذلك في وجدان الدولة المستهدفة (4) أن يكون المطلب معقولاً وفي وسع القيادة السياسية للخصم تنفيذه (3) أن تصاغ وسائل الترهيب (العصا) والترغيب (الجزرة) بحيث تصل الدولة المستهدفة إلى قناعة بأن حسابات الربح والخسارة ومنطق البقاء السياسي وضرورات المصالح الوطنية تستلزم الرضوخ للمطالب وقطع دابر الإنزلاق في مواجهة نتائجها الوخيمة، ويعتبر هذا من أهم الشروط لأن القادة السياسيين يمقتون بشدة إظهار الضعف أو الخنوع تجاه الإملاءات الخارجية؛ لأنها مدعاة للطعن في الولاء وكسر للكبرياء الوطني، ورفض الإهانة عامل كامن في طبيعة البشر، فلا يجب تحميل القادة ما لا يطيقونه ووضعهم بين نارين: إما الرضوخ للقهر السياسي أو الفرار إلى جحيم الحرب. فعلى سبيل المثال، لقد كان من العبث قيام الرئيس الأمريكي جورج بوش بإنذار الرئيس صدام حسين وأبنائه قبيل الاحتلال لمغادرة العراق خلال 48 ساعة أو التنحي عن السلطة في مقابل تجنيب العراق ويلات الحرب، فلقد كانت تلك الجهود حتمية الفشل، وهي أقرب إلى الابتزاز أو "البلطجة السياسية" عنها من دبلوماسية الإكراه، لأن هذا العمل يمتهن كرامة دولة، ولا يتوافق مع طباع صدام في الشدة والعناد ومركزيته في صنع القرار، ويتجاهل تاريخ القادة العراقيين السابقين الذين قتلوا شر قتلة بعد اتهامهم بالخيانة ومحاولتهم للهرب قبيل خلعهم من السلطة.

صعوبة نجاح الإكراه في العلاقات الدولية
إن تطبيق الدبلوماسية القهرية ليس بالشأن الهين، حيث تتسم هذه الإستراتيجية بالمتطلبات المتناقضة، فهي تستدعي الترهيب بإنزال أكبر ضغط ممكن على صناع القرار من جهة، وضرورة الترغيب لغرس القناعة بجدوى الاستجابة للمطالب من جهة أخرى، فهي دمج لعملية تخويف وتطمين في آن واحد. ولهذا، فهي تعتبر عملية نفسية بدرجة كبيرة، حيث تقتضي دراسة الصفات الشخصية وتوجهات القيادة السياسية في الدولة المستهدفة، وما يعتريهم من تصورات قد تناقض الصواب، وما يترتب على ذلك من سوء التقدير في عملية صنع القرار. هنا يبرز دور الاستخبارات وخبراء علم النفس في تشخيص فكر ونفسية و"نقاط ضغط" العدو والإكراهات السياسية المفروضة عليه للتنبؤ بسلوكه وقراراته. ولذلك، فإن الدبلوماسية القهرية الأوفر حظاً في النجاح هي تلك التي يتم فيها إبراز الأزمة كمعادلة غير صفرية وصياغة حزمة الحوافز والعقوبات بما تتناسب مع السياق المحلي في الدولة المستهدفة والدوافع الفكرية ونقاط الضعف والقوة النفسية لصناع قرار الخصم، بحيث لا يشكل تنفيذ المطالب إهانة شخصية ولا ينطوي على استفزاز سافر للسيادة الوطنية أو امتهان لكرامة الأمة. ويستعرض هذا المقال حالتين دراسيتين لتوضيح ما سبق عرضه.

تخلي القذافي عن البرنامج النووي 
تكللت الجهود الأمريكية في سنة 2003  بإقناع الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي للعدول عن تطوير أسلحة دمار شامل، وأصبحت تلك الأزمة – بالرغم مما شابها من تناقضات – مثالاً في أدبيات العلاقات الدولية للدبلوماسية القهرية الناجحة، وكانت تتويجاً لمشاورات أمريكية-ليبية مدعومة بوساطات أطراف ثالثة استغرقت بضع سنين، حيث مارست الولايات المتحدة ضغوطاً مباشرة وصريحة على نظام القذافي من خلال العقوبات الاقتصادية والعزلة السياسية، وتسوية قضية لوكربي بدفع تعويضات هائلة لأسر الضحايا ومحاكمة مرتكبيها، وقبلت ليبيا الدخول في المفاوضات بعد أن أكدت الإدارة الأمريكية بما لا يدعو للشك أن نيتها هي تغيير توجهات السياسة الليبية وإعادة تأهيل النظام في المجتمع الدولي بدلاً من إسقاطه، وتبنت على إثرها الحكومة الليبية البرغماتية وتعامل المفاوضون مع النظام بقدر كبير من المجاملة، وتم بناء الثقة بين الطرفين تدريجياً بتبادل المعلومات الأمنية لتذويب العداوة التي تراكمت منذ عقود، وجاهد الطرفين لتلطيف الجو السياسي والتودد لتخفيف درجة الاحتقان، حيث امتنعت إدارة جورج بوش في سنة 2002 عن وضع ليبيا في دول محور الشر، على الرغم من سوء صنيع القذافي في دعمه للجماعات المسلحة، وموقفه الرافض للسياسات الأمريكية في المنطقة، ومن الجو المشحون دولياً بعيد هجمات الحادي عشر من سبتمبر الذي لم يتسامح مع الدول الراعية للإرهاب، جاءت كل تلك الجهود لطمئنة الزعيم الليبي حتى لاتساوره الشكوك وتثور ثائرته وتدفعه إلى مغامرات لا تحمد عقباها. خلاصة القول، أوصلت الدبلوماسية الأمريكية القذافي إلى بيت القصيد وهي القناعة الذاتية بأن البرنامج النووي لن يحقق له النفوذ والهيبة ولن يحمي نظامه، بل سيجلب له الاحتلال والدمار كما فعلت الولايات المتحدة بالعراق، وأن من منطق البقاء السياسي -وفقاً للظروف السائدة آنذاك -تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة وإعادة تأهيل نظامه في المجتمع الدولي. ولذلك لم يكن مستغرباً قبول القذافي رسمياً بالتخلي عن البرنامج النووي الليبي بعد 5 أيام من القبض على صدام حسين وانتشاله من حفرة من تحت الأرض. 

كوريا الشمالية: عقود من فشل الدبلوماسية القسرية
لماذا نجحت الولايات المتحدة في ليبيا بينما استمر مسلسل الفشل الدبلوماسي في كوريا الشمالية؟ بدأت المفاوضات بين الطرفين خلال إدارة بيل كلينتون في عام 1994، والتي أسفرت عن التوقيع على إتفاقية تقوم بموجبها العاصمة الكورية الشمالية بيونج يانج بتجميد نشاطها في تطوير برنامجها النووي في مقابل تزويد الغرب لها بالتكنولوجيا النووية المتطورة ذات الطابع السلمي، ونجحت جهود الإكراه لتحقيقها كل مبادئ الفاعلية المذكورة آنفاً، والتي شملت سياسة "العصا والجزرة" التي تتناسب وواقع الحال في بيونج يانج، فقد تم سحب الأسلحة النووية الأمريكية من كوريا الجنوبية، وعلقت التمارين المشتركة بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية في سبيل طمأنة النظام الكوري الشمالي، وفي المقابل تم التأكيد على ضمان الحماية الأمريكية بالقوة العسكرية لحليفتها كوريا الجنوبية، وبهذا أفلحت آنذاك الكلمة الناعمة المسندة بالرصاصة القاتلة في إقناع كوريا الشمالية "بالحسنى". ولكن قيام بيونج يانج بتجارب صواريخ باليستية في 1998 أدى إلى مراجعة الإتفاقية وإعادة المفاوضات التي امتدت إلى إدارة جورج بوش، حيث اتخذ حينها المحافظون الجدد نهجاً اتسم بالشدة والغلظة وتبنوا الخطاب العدائي والتهديد بتغيير النظام وألقوا بالدبلوماسية القسرية عرض الحائط، حيث انتهى الأمر بضمها في دول محور الشر، وفي وقت كانت طبول الحرب على العراق تدوي عالياً انسحب النظام الكوري الشمالي في يناير 2002 من معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية،، ، وأجرى أول تجربة قنبلة نووية في عام 2006 محققاً بذلك الردع النووي.  

أما الجهود الغربية الراهنة لإكراه كوريا الشمالية بنزع أسلحة الدمار الشامل، فلا يمكن وصفها بدبلوماسية قسرية محكمة، فالمفاوضات بين الأطراف متذبذبة، فتارة يهدد الرئيس ترامب بعقاب بيونج يانج بــ "نار وغضب لم يشهده العالم من قبل" وتارة يجتمع الطرفان دون تحقيق أي تقدم لأنهما يختلفان على معنى اصطلاح "نزع" السلاح النووي. الأمر الآخر، فإن شيطنة الولايات المتحدة الأمريكية واختلاق الأزمات الدولية بإجراء التجارب النووية، وإطلاق الصواريخ الباليستية وتهديد الجيران أصبحت أداة سياسية مجدية جداً لبيونج يانج، فهي تلفت نظر الشعب عن استبداد وفشل النظام وعدم قابليته للإصلاح، وتتخذ من الأزمات الدولية وسيلة لابتزاز الغرب بالمساعدات الخارجية، حتى لا يسقط النظام ويهدد الأمن والسلام العالمي. وعلى أية حال، لا توجد حكومة عقلانية ستتجرد من أسلحتها النووية وتذبح نفسها بيدها، خاصة بعدما شاهدت كيف أشهر الغرب وحلفاؤهم سيوفهم على القذافي في أحداث ’الربيع العربي‘ بعد أن تخلى عن طموحه النووي وثار عليه شعبه وانكسرت شوكته، فأصبح لقمة سائغة تتلقفه القوى الدولية على طبق من فضة.