الخميس 05 ديسمبر 2019

انتخب روحاني لولاية ثانية في أغسطس 2017 بواقع 23,5 مليون صوتاً أي57% من الأصوات (الانتخابات الإيرانية، 2017). وبعد ذلك بأربعة أشهر اندلعت الاحتجاجات في شوارع 75 مدينة إيرانية معربة عن استيائها ورفضها للنظام (فراجي، 2018). ولاتزال تلك المظاهرات مستمرة، وإن كان بشكل متقطع حتى يومنا هذا. ويحاول هذا المقال قراءة الأحداث من الداخل في مراجعة لأبحاث ميدانية قام بها خبراء وأكاديميون إيرانيون ركزت على ثلاثة عوامل رئيسية في المظاهرات وهي خيانة مبادئ الثورة الإسلامية، وأصوات الشباب الآخذة بالصعود، والأساليب الفاشلة للنظام في إدارة الأزمات الداخلية.

خيانة مبادئ الثورة الإسلامية
صور الخميني الثورة الإسلامية على أنها نصيرة المستضعفين في مواجهة أنظمة الاستكبار العالمي، وهدفها الدفاع عن المقدسات الإسلامية عامة ونصرة القضية الفلسطينية خاصة، مبشرة بعودة العدل ونهاية الظلم الذي حل في العالم (أبو القاسم، 2017). وبفضل التزام الحكومة بتلك المبادئ في الفترة الزمنية 1979-1989 ازدهر العصر الذهبي للنظام وازدادت شعبيته في بعض المناطق في العالم الإسلامي، غير أن الحكومة الإيرانية انحرفت تدريجياً عن المبادئ الأساسية للثورة داخلياً وخارجياً منذ أن خلف خامنئي الخميني كمرشد عام للثورة الإسلامية سنة 1989. ففي الداخل الإيراني، وبينما ركزت المناهج الدراسية في العشر سنوات الأولى من الثورة على قضايا المسلمين العرب-كقضية فلسطين-تغير تركيز تلك المناهج إلى المقاومة المسلحة ونشر المذهب الشيعي في حقبة التسعينات وما تلاها (مالك زاده، 2018).

 كما تغيير نمط حياة المنتفعين من الحكومة تدريجياً حتى صار مطابقاً لنمط الحياة في القوى العظمى. وقد تحولت الأيديولوجية الخاصة بالجمهورية الإسلامية من التركيز على الفقراء إلى التركيز على الطبقة الوسطى والعليا، وتركز الاهتمام على رفاهية تلك الفئتين. وحظي الأثرياء بتأمين طبي وقسائم تسوق وقروض ورواتب ضخمة (فراجي، 2018). وفي المقابل فإن سوء إدارة موارد الدولة أدى إلى ارتفاع معدلات الفقر وغلاء المعيشة في أنحاء البلاد (قاسمي نجاد، 2018). ففي الأعوام 2017-2018 ارتفع معدل غلاء المعيشة من 22% إلى 26 % في المناطق الحضرية ومن 25% إلى 30% في المناطق الريفية. وعلى سبيل المثال، زادت نسبة الفقر في ولايات سيستان وبلوشستان إلى 38 % وكرمان 33%، وفي مدينة قم إلى 30% في الأعوام ما بين 2016 و2017. ويفسر ذلك بعض الأسباب التي جعلت مدينة قم مركز المظاهرات رغم أنها خرجت جميع المراجع الدينية في البلاد من حوزاتها. أما خارجياً، فقد اعترف خامنئي في حديث خاص أن إيران تنظر في علاقاتها مع الدول إلى مصالحها سواء أكان الحاكم دكتاتوراً أم لا (أبو القاسم، 2017)، في إشارة واضحة إلى أن إيران لم تتدخل في سوريا لحماية المستضعفين الذين طالبوا بإسقاط النظام ولا المقدسات الدينية، وإنما حماية لمصالحها السياسية مما يشكل خيانة واضحة للمبادئ الأساسية للثورة بنصرة المستضعفين ونشر العدل في العالم.

صعود صوت الشباب
ليس من المستغرب أن الغالبية العظمى من المحتجين هم من فئة الشباب. ويبلغ تعداد الشباب الإيراني الذين تتراوح أعمارهم بين 15-25 عاماً حوالي 12 مليون شخص (مؤشر موندي، 2018). ولم يشهد هذا الجيل الثورة الإسلامية، ولا الحرب الإيرانية العراقية. إنهم شبان الألفية الذين ولدوا في عصر الإنترنت والذين يطمحون للحصول على ما حصل عليه نظرائهم في جميع أنحاء العالم. وهم يستخدمون الشبكات الاجتماعية مثل التلغرام، والتي يبلغ عدد مستخدميها ما يفوق الأربعين مليون شخص في إيران (قاديفار ستوده، 2018). ومن مشاهد ثورة 2017 قيام ما يقارب من ألفي شاب بالتظاهر المستمر في مدينة قم المقدسة-أهم مركز ديني في إيران في ساحة الشهيد مرددين هتافات ضد الحكومة تدعو إلى عودة حكم الشاه، وتندد بالظلم وعدم المساواة وتظهر الغضب الشديد ضد الملالي (فراجي، 2018).

  ويعتبر قانون العمل لسنة 2017 مثالاً على غياب العدالة الاجتماعية، وينص القانون على أن الحد الأدنى للأجور هو مبلغ 9.8 مليون ريال للعمالة غير الماهرة (فراجي، 2018)، في الوقت الذي يعاني فيه خريجو الجامعات للحصول على وظيفة بأقل من هذا المبلغ، حيث بلغ معدل البطالة في البلاد 24 ٪، أما المرتبطين بالنظام فيمكنهم الحصول بسهولة على وظيفة براتب 20 مليون ريال بدون شرط المؤهل. لقد فاض الكيل بالشباب جراء الإهمال الحكومي، والظلم الاجتماعي، وعدم الاكتراث بالقضايا الداخلية. ويشعر الشباب الإيراني بالإحباط إزاء نفاق النظام في تخفيض إنفاقه محلياً مقابل الإنفاق الجامح إقليمياً في قضايا لا يرون أنها مصيرية أو مهمة بالنسبة لهم. 
أنهم ينتمون إلى جيل جديد يرغب بالتغيير نحو حياة أفضل، ومستقبل أفضل، أسوة بحركات الشباب في أماكن أخرى من المنطقة.

فشل أساليب إدارة الأزمات الداخلية 
لجأت الحكومة منذ عام 1979 إلى واحد أو أكثر من الممارسات التالية (إحساني وكيشافارزيان، 2018) لإدارة الأزمات الداخلية:
العنف الانتقائي من قبل قوات الأمن.
التفاوض مع النخبة (غالباً بشكل غير رسمي، وخلف الأبواب المغلقة)، وقد استخدمها الخميني كثيراً.
استغلال الانتخابات. عندما لا تستطيع النخب حل الخلافات، يتم اللجوء إلى الانتخابات لاحتواء الموقف ونزع فتيل الأزمة.
استخدام أجهزة الدولة الرئيسية مثل الوزارات والمؤسسات المالية والتعليمية والبنية التحتية والكهرباء لإظهار أن النظام يهتم بالشعب واحتياجاته. كما أن المؤسسات الحكومية اضطلعت بدور رئيس في بقاء النظام واستمراره.
أخفقت هذه الأساليب في إدارة الأزمات الداخلية نتيجة لتدهور الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بسبب الممارسات الخاطئة للحكومة. ومع مرور الوقت، حدث انقسام عميق في المؤسسات الحكومية بشأن القضايا المحلية والخارجية. وقد تأثرت المفاوضات مع النخبة بنوع جديد من الطبقة الغنية المرتبطة بالنظام، والتي تعتبر نفسها من الصفوة، وبالتالي ازدادت أعداد الطبقة الراقية وأصبحت المفاوضات أقل فاعلية في حل الخلافات. وقد أدى ذلك إلى إهمال الفقر، وتزايد الظلم الاجتماعي وعدم المساواة في الحقوق خاصة فيما يتعلق بالأقليات العرقية في البلاد. 

وعلى سبيل المثال، في مدن الأهواز يحس الإيرانيون العرب بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية، حيث أن محور اهتمام الإسلام الشيعي هو العرق الفارسي (دغاغيله، 2018). كما أدى استقطاع الأراضي الشاسعة لإقامة المشاريع الحكومية الزراعية والنفطية المقترن بعدم الاكتراث بتطوير الخدمات التعليمية والصحية ورفع مستوى المعيشة إلى شعور الكثير منهم أن الحكومة الإيرانية هي أقرب إلى حكومة احتلال منها إلى حكومة وطنية. وهناك شعور متنامي بين العرب الأحوازيين أن السلفية تقربهم إلى العالم العربي مع اهتمام وسائل الإعلام العربية بقضيتهم ومعاناتهم في سبيل نيل استقلالهم من إيران.  ونتيجة لذلك، تحول الكثير من الأحوازيين إلى المذهب السني في رحلة البحث عن الذات بسبب الاضطهاد والوضع الاقتصادي المتردي في مناطقهم. 
وبالإضافة إلى العقد الاجتماعي غير المكتمل بين الدولة ومواطنيها، أدى انخفاض عائدات النفط، فضلاً عن النقص في المنتجات الزراعية التي تلت سنة تميزت بأقل معدل لسقوط الأمطار منذ عقد من الزمان إلى خفض الإنفاق الحكومي الداخلي. أما من الناحية السياسية، فقد ساعدت العقوبات الأمريكية في عزل إيران والتأثير سلباً في اقتصادها المنهار. وفي ظل تزايد القضايا الاجتماعية الداخلية، كان من المفترض أن يترجم مرشحي الرئاسة أحلام الجماهير ويقودوهم إلى تحقيق الرخاء كما وعد روحاني، لكن روحاني لم يفي بهذا الوعد في ولايته الأولى ولا الثانية. كما إن الانتخابات، التي كانت يُنظر لها في الماضي على أنها وسيلة لإدارة الصراع قد خلقت مزيداً من الانقسام بين المواطنين الإيرانيين والحكومة، وأدت كل تلك الوعود المنكوثة إلى تأجيج الغضب ضد الحكومة التي لا تكترث بالشعب وقضاياه الداخلية.

يشير الوضع الإيراني المتأزم إلى استمرار المظاهرات واتساع نطاقها وحدتها حتى يرضخ أو يسقط النظام تلبية للمطالب الشعبية (أبو القاسم، 2018). وعلى الصعيد الخارجي، فإن استمرار العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية على إيران، واستمرار هزيمة مشروعها في تصدير الثورة في الوطن العربي (اليمن مثالاً)، ووجود نموذج الحياة الذي يصبو لها الشباب الإيراني في الدول المجاورة، ستؤدي إلى مزيد من الضغوط الشعبية على النظام داخلياً. أما على الصعيد الداخلي، فإن الفوارق الواضحة بين الأغنياء والفقراء، وبين الشعارات والأفعال، وبين المبادئ والحقائق، وبين الأقليات والحكومة، وبين تطلعات الجيل الجديد من الشباب وتحفظات الحرس القديم للثورة، وغياب العدالة الاجتماعية لن تؤدي إلا إلى المزيد من التظاهرات. 
ومن عجيب المفارقات أن ثورة الشعب في 2017 ضد الملالي قد أتت بعد 38 عاماً تماماً من ثورة الشعب بقيادة نفس الملالي، والتي أزاحت الشاه عن حكم دام 38 عاماً.  وفي الثورة الأولى انتصر الشعب ضد جهود التغريب في الأساس ثم تلاه بذخ الشاه في ظل وضع اقتصادي منكمش. وها هو الشعب، مرة أخرى، يصمم على الانتصار في ثورته الثانية على الظلم الاجتماعي وعلى بذخ الطغمة الحاكمة في ظل الوضع الاقتصادي المتردي للبلاد.