الأحد 22 أغسطس 2021

شهدت الساحة الدولية في السنوات الأخيرة زحف تحالف الصين وروسيا بشكل كبير وبقوة نحو السيطرة على النظام الدولي، وتحتل دول الخليج العربي مكانةً استراتيجية مهمة لدى الولايات المتحدة الأمريكية من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى، حيث تشهد تحركات الصين وروسيا بشكل متسارع في منطقة الخليج من حيث بناء سياسات وشراكات استراتيجية جديدة مع دول الخليج العربي، وبناء تنافسية كبيرة في المشاركة بشكل أوسع في قضايا منطقة الخليج وتطوراتها. حيث يعتبر إقليم الخليج العربي أحد أهم الأقاليم في النظام العالمي وخاصة على الصعيد الاقتصادي، حيث أنه يمتاز بثروته النفطية (كالسلع الاستراتيجية) ومصادر الطاقة، وموقعه الاستراتيجي على خارطة التجارة الدولية والملاحة البحرية وهذا ما خلق التنافس الدولي على منطقة الخليج العربي للعديد من القوى الدولية الكبرى.

لذلك تسعى الولايات المتحدة الأمريكية لفرض وتعزيز نفوذها العسكري في منطقة الخليج لمواجهة القوى المناهضة لها في المنطقة وتسعى أيضاً لتحقيق التوازن المطلوب في مواجهة النظام الإيراني والحفاظ على مصالحها لتشكيل الاستقرار والأمن في منطقة الشرق الأوسط. بالمقابل تهتم الصين بالخليج لتحقيق مصالحها الاقتصادية وتنمية مشاريعها واستثماراتها وتركز على أن تكون شريك اقتصادي هام مع دول الخليج.

بيد أن الولايات المتحدة الأمريكية انتهجت في الآونة الأخيرة سياسة سحب قواتها العسكرية من منطقة الخليج، والانسحاب الكامل من أفغانستان ما يراه بعض المحللين تغير في بوصلة الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، والسؤال الذي يطرح نفسه ما أثر الانسحاب الأمريكي "حالة الفراغ" على دول المنطقة؟

أثر الانسحاب الأمريكي على أفغانستان والقوى الإقليمية
إن انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من منطقة الخليج بشكل عام وأفغانستان بشكل خاص قد يخلق نوعاً كبيراً من المخاوف والاضطرابات لدى روسيا والصين، وهو أحد الوسائل والأدوات التي تستخدمها الولايات المتحدة الأمريكية للضغط على الدولتين، حيث كانت أمريكا تساهم في حفظ واستقرار الأمن في هذه المنطقة وتقوم بمكافحة الإرهاب ومواجهة حركة طالبان. إن قرار سحب القوات الأمريكية من منطقة الخليج وأفغانستان سيؤثر على مصالح الصين الاقتصادية والأمنية والسياسية ويؤثر أيضاً على المصالح الروسية.

وقد يشكل خروج القوات الأمريكية خطراً على الصين من عدة نواحي، أولاً اقتصادياً، حيث سيهدد الانسحاب الأمريكي من وصول الإمدادات النفطية للصين كونها أكبر مستورد للنفط من منطقة الخليج. علاوة على ذلك يشكل انعدام الاستقرار في أفغانستان تهديداً للمصالح الصينية كطريق الحرير بالإضافة للاستثمارات الصينية حيث تستثمر الشركات الصينية في العديد من النشاطات الاقتصادية كالتعدين والبنية التحتية. ثانياً أمنياً، سيساهم الانسحاب في دعم طالبان للأقليات المسلمة في الصين (والتي تقع على حدود الصين مع أفغانستان) مثل حركة الإيغور المسلمة والتي تسعى للاستقلال وهذا يؤثر على المصالح الأمنية للصين. إضافة إلى ذلك، صعود تنظيم الدولة الإسلامية داعش في أفغانستان، في ولاية خرسان، أحد مصادر التي تقلق الجانب الصيني، حيث يخشى المسؤولون في الصين من تزايد نشاط الحركات الإسلامية المتطرفة (في ظل نظام متطرف) وتوغلها في باكستان ضد مصالحها وازدياد التوترات الأمنية وانعدام حالة الاستقرار في المنطقة.

إن تسارع انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان ساهم في تحقيق تقدم كبير لطالبان وسيطرتها على مناطق تمتد من الحدود الإيرانية غرباً إلى حدود الصين في شمال شرق البلاد وهذا برمته يثير القلق من تفشي الجماعات الإرهابية المتطرفة لدى روسيا والصين ودول الجوار، وهذا بحد ذاته يخل بتوازن القوى في المنطقة، على الرغم من سعي أمريكا لدعم الوجود التركي في أفغانستان بحجة "ملء الفراغ الأمريكي". وترى تركيا من هذا الانسحاب فرصة لإعادة ولزيادة بسطة سيطرتها ونفوذها في المنطقة (العمق الاستراتيجي) وتسعى أيضا لتعظيم دورها كدولة إقليمية ذات دور محوري في إرساء الاستقرار الأمني غير أن هذا سيشكل تحدياً كبيراً كون أن الانسحاب بحد ذاته قد يُؤدي إلى حرب أهلية نظراً للصراعات الطائفية والعرقية في أفغانستان.

أثر الانسحاب الأمريكي على إيران ودول المحيط الخليجي
تعتبر الدولة الخمينية من أهم الأطراف المعنية غير العربية بالأوضاع في المنطقة، حيث انها تعمل على زعزعة أمن واستقرار المنطقة بالإضافة إلى أطماعها في السيطرة على الخليج العربي كاستيلائها على جزر الإماراتية الثلاثة والذي يعتبر امتداداً لسياسة إيران الشاهنشاهية. تشكل استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية من سحب قواتها العسكرية من الخليج العربي فرصة لبسط أذرع ونفوذ إيران في منطقة الشرق الأوسط وتمركز قواعدها في كلا من العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن. حيث تعكف إيران في مسعاها لتحقيق أهدافها الاستراتيجية في المنطقة من جراء استغلالها للفراغ الناتج عن مواجهة القوى العظمى متمثلة في أمريكا من طرف والصين وروسيا من طرف آخر، وتعمل على خلق الفوضى والإرهاب في دول المنطقة لخلق بيئة خصبة للتمدد الشيعي. 

لا تزال إيران تعمل على زعزعة أمن واستقرار دول الخليج العربي عبر التدخل في شؤون دول الجوار من خلال دعمها لعملائها في تلك الدول علاوة على ذلك دعمها المستمر للحوثيين (حرب الوكالة) في اليمن ضد التحالف العربي والتي تقودها المملكة العربية السعودية وإثارة الفتن والتفرقة العقائدية والطائفية ودعمها للوجود الشيعي كما في السعودية والبحرين والكويت وتهديدها للملاحة البحرية في بحر العرب وعبر مضيق هرمز وباب المندب. ويمكن القول ان خروج القوات الأمريكية من المنطقة سيؤثر بشكل مباشر على الناقلات النفطية حيث أنه من أهداف إيران الاستراتيجية السيطرة على المضايق الاستراتيجية مما يعني التحكم بالملاحة البحرية والذي سيشكل تهديداً مباشراً للتجارة الدولية وبالتالي للاقتصاد العالمي.

تسعى إيران لتعظيم نفوذها وقوتها في العراق على حساب انسحاب القوات الأمريكية، لأنها بشكلٍ أو بآخر تسعى للهيمنة المطلقة، وتلعب إيران دوراً كبيراً من خلال دعمها للميليشيات الطائفية الموالية لها في تكرار الهجمات الصاروخية على القواعد الأمريكية لزجها خارج الأراضي العراقية. وبالتالي فإن خروج القوات الأمريكية يزيد الوضع تعقيداً ويساهم في ترسيخ القبضة الإيرانية على العراق، وهذا بالتالي يشكل فوضى أمنية عارمة، وزيادة حدة الأزمة الاقتصادية والذي يؤدي إلى إتاحة الفرصة لعودة وتوغل داعش في بعض المناطق العراقية، وفي شرق سوريا. 

بالإضافة إلى ذلك نجد أن إيران بدأت في خوض مباحثات حثيثة لفتح قنوات دبلوماسية مع طالبان ودعم سيطرتها لأفغانستان على الرغم من اختلافاتهما الأيديولوجية وتاريخ العداء بين الطرفين في الماضي. حيث ان الانسحاب الأمريكي من أفغانستان يفسح المجال لإيران لفتح علاقات مع طالبان كون كلا الطرفين يتقاسمان العداء تجاه الولايات المتحدة الأمريكية وتنظيم الدولة الإسلامية داعش والذي برمته يسهل توغل نفوذ إيران في الشأن الأفغاني وتعزيز مصالحها من خلال تعزيز علاقاتها مع القوى الفاعلة في الشأن الافغاني كـالهند وروسيا لتصبح قوة فاعلة ومهيمنة إقليمياً.

ملء الفراغ
مما سبق ذكره نستخلص بأن الانسحاب الأميركي من المنطقة يشكل تحدياً كبيراً لدول الشرق الأوسط، مما سيؤدي ذلك إلى تدخل العديد من الأطراف الدولية في المنطقة كروسيا والصين وإيران حيث تنتقل المنطقة إلى مستوى من التوتر والاضطراب الغير المسبوق، وأن بعض دول المنطقة غير قادرة على مواجهة الخطر أو ملء الفراغ نظراً لاعتمادهم السابق على التدخل الأمريكي. لكن السؤال هو وعلى الرغم من تداعيات الفراغ الأمريكي على المنطقة، هل باستطاعة روسيا والصين سد الفراغ والقدرة على إدارة او حل الأزمات وتنشيط دورهما الدبلوماسي والأمني في إقليم متقلب ومضطرب يؤثر بشدة على الاصطفاف الأمني وسط انقسام طائفي متزايد؟  

من هذا المنطلق على المحيط الخليجي إيجاد استراتيجية شاملة ومتماسكة لسد الفراغ الأمريكي وسحب قواته من المنطقة، وهذه الاستراتيجية يجب أن تركز على العديد من الدعائم منها: توحيد الجهود الخليجية، بالإضافة إلى ذلك التركيز على النواحي الأمنية لمنطقة الخليج، وإقامة الشراكات السياسية والاقتصادية الاستراتيجية والعسكرية لمواجهة التحديات والتهديدات، والاعتماد على الذات، وتماسك الموقف الخليجي، وتقوية الشراكة الخليجية الاستراتيجية مع دول الإتحاد الأوروبي وأقاليم أخرى، وتهدئة ونبذ الخلافات العربية، ومحاربة الإرهاب والتطرف.